في مدينة أجرا، حيث يلتقي التاريخ بالحلم، يقف تاج محل كقصيدة من الرخام الأبيض، أنشدها إمبراطور عاشق لزوجته، فحوّل حزنه إلى أعظم نصب تذكاري للحب عرفه البشر، هو ليس حجراً صامتاً ولا قصراً عادياً، بل قلب نابض يروي للعالم أن العاطفة الصادقة قادرة على أن تنتصر على الموت، وأن تظل ذكرى الحبيب خالدة في وجدان الإنسانية.
لقد أراد شاه جهان أن يجعل من ضريح زوجته ممتاز محل مرآة لخلودهما معاً، فشيّد بناءً يتنفس الجمال، يغيّر لونه بتغير أوقات النهار كوجه المحب حين يضيئه الفرح أو يكسوه الشجن. وهكذا صار تاج محل أيقونةً للحب الخالد، ورسالةً أبدية تؤكد أن القلوب حين تعشق تستطيع أن تكتب بالفن ما تعجز السيوف عن كتابته بالقوة.
تاج محل ليس حجراً بارداً ولا بناءً صامتاً، بل روحٌ متجسدة في رخام أبيض، كائن يتنفس الضوء ويغيّر ملامحه مع دوران الشمس، وعند الفجر يتورد خجلاً بلون زهرة ناعسة، في الظهيرة يتلألأ أبيض ناصعاً، كالنقاء المصفّى، مع الغروب يتشح بذهبٍ دافئ يذكّر بحرارة العاطفة، وفي الليالي المقمرة يشع كأنه يختزن في قلبه قمراً كاملاً.
اختيار الرخام الأبيض لم يكن مصادفة، بل لأنه اللون الأقرب إلى قلب ممتاز محل، ولأنه المرآة الأصفى لعناق الضوء والظل، حتى بدا الضريح لوحة أبدية تتجدد مع كل لحظة من النهار.

التناظر الذي يدهش العيون
بمجرد أن تعبر البوابات العظيمة، يأخذك سحر التناظر المطلق الذي صاغته عبقرية المعمار المغولي؛ كل قبة لها توأم، وكل مئذنة لها شقيقة، وكل نقش يجد صدى مثله في الجهة المقابلة، حتى يكتمل المشهد في انسجام يتحدى العين والعقل معاً.
القبة الكبرى، بقطرها 35 متراً، ترتفع كعرش سماوي. أربع مآذن رشيقة تحيط بالبناء كحراس أوفياء، مائلة قليلاً للخارج حتى تحمي القصر إن غضب الزلزال.
حدائق “شارباغ” المائية تحتضن القصر بأربعة محاور مستوحاة من صورة الجنة، وفي قلبها “بحر الكوثر” يعكس الضريح في الماء كأنه يضاعف حضوره بين الأرض والسماء.
أما الزخارف الموشّاة بالأحجار الكريمة فهي أزهار خالدة لا تذبل، تتناثر بينها آيات قرآنية كتبت بخط الثلث والكوفي كأنها بردة نورانية تحرس القصر.
قال المعماري جورج ميتشل: “إن تناسق تاج محل لا يقتصر على الحجر والهندسة، بل يمتد إلى الضوء والظل، ليصنع مشهداً يتبدل في كل لحظة، لكنه لا يفقد كماله أبداً.”
ملحمة أيدٍ وأرواح
هذا الجمال لم يولد من فراغ، بل من عرق آلاف الأيدي وإبداع آلاف الأرواح:
500 نحّات من بخارى.
150 خطاطاً من الشام وفارس.
2000 فنان زخرفة من جنوب الهند.
1500 عامل حجر من بلوشستان.
وأكثر من 1000 فيل ساهموا في حمل الأحجار الثقيلة.
لقد كان مشروعاً عابراً للحدود والثقافات، التقت فيه حضارات الهند وفارس والعرب وتركيا في بوتقة واحدة، ليخرج إلى العالم تاج محل: تحفة تتحدث بكل لغات الحب.
التاج بين الماضي والحاضر
واليوم، وبعد أربعة قرون، ما زال تاج محل مقصداً للعشاق والحالمين من كل أصقاع الأرض. وصفه طاغور بأنه “دمعة على خد الخلود”، بينما اعتبره الرحّالة ويليام فينش “أعظم بناء في الألف عام الأخيرة”.
لكن هذه التحفة الخالدة تواجه تهديدات الزمن:
هواء ملوّث يكسو الرخام بالاصفرار.

نهر يامونا يذوي، فتضعف الأساسات.
زحف عمراني وسياحة مزدحمة تئنّ تحت وطأتها جدران المكان.
ولذا وضعت اليونسكو تاج محل عام 1983 تحت حماية التراث العالمي، ليظل صامداً أمام خطر الإنسان والدهر.
حين يصبح الحزن حضارة
إن تاج محل ليس ضريحاً ولا قبراً، بل ملحمة حب محفورة في الرخام، ورسالة خالدة تقول إن الحزن إذا اقترن بالوفاء، يستطيع أن يصنع حضارة تتحدى قرون الزمان. لقد حوّل شاه جهان دمعته على ممتاز محل إلى بناء يتلألأ كقصيدة لا يبهت سحرها أبداً، ليعلّمنا أن الحب الصادق أقوى من الموت، وأن الذكرى إذا سُطّرت بالفن تبقى حيّة ما دام في الأرض إنسان يتنفس الجمال.