أنوفيا- تقف مكاور، المعروف تاريخيًا باسم مكاريوس، فوق الضفاف الشرقية للبحر الميت، ليشكّل واحدًا من أكثر المواقع التاريخية سحرًا في الأردن. هذا الموقع الفريد، الذي أعاد هيرودس الكبير بناءه كقلعة-قصر شامخة فوق تلة عالية، ما يزال حتى اليوم يروي حكايات عن القوة والهيبة، ويمنح زواره إطلالات بانورامية تأسر الأبصار على الأودية والتلال الممتدة حتى البحر الميت.

لا يقتصر سحر مكاور على هندسته العسكرية وما تبقى من جدرانه وأعمدته، بل يتجاوز ذلك إلى موقعه الاستراتيجي ضمن شبكة من أبرز المعالم الدينية والتاريخية. بينما يلمع البحر الميت في الأفق كمرآة تعكس قرونًا من التاريخ.
داخل القلعة، كشفت التنقيبات الأثرية عن ساحات احتفالية وقاعات استقبال ملكية، ومن بينها تجويف بارز للعرش يُعتقد أنه شهد أحداثًا محورية في الحقبة الهيرودية. ويظل مكاور مرتبطًا بقوة بقصة يوحنا المعمدان، الذي سُجن وأُعدم فيه، وفق ما ورد في الأناجيل وما أكّده المؤرخون الأوائل. كما خلدت الروايات رقصة سالومي التي ظل صداها يتردد في الأدب والفن والدين لقرون، ما أضفى على المكان عمقًا روحيًا وثقافيًا يلامس الحجاج والباحثين على حد سواء.
يؤكد الكتاب المقدس، إنجيل القديس متى والقديس مرقس، أن مشهد إعدام يوحنا المعمدان في مكاور كان واحدًا من أكثر الأحداث درامية في التاريخ المسيحي المبكر، فيما سجّل يوسابيوس في القرن الرابع “قُطع رأس يوحنا المعمدان على يد هيرودس… في قلعة مكايرس.”

الحفريات الحديثة، التي بدأت عام 2009 بقيادة عالم الآثار المجري غيزو فوروُش، أعادت رسم صورة المكان كما كان في زمن هيرودس، كاشفةً عن قاعات فسيحة وأبراج دفاعية وجدران حصينة، فيما أسهمت عمليات الترميم وإعادة تشييد بعض العناصر المعمارية في إحياء المشهد أمام أعين الزوار.
اليوم، لم يعد مكاور مجرد أطلال حجرية، بل محطة ملهمة لرحلة تجمع بين التاريخ والروحانية والجمال الطبيعي. إنه معلم ثقافي يختزل الإرث الأردني العريق، ويقدّم تجربة لا مثيل لها تجمع بين العمق الديني، والسرد التاريخي، والبعد المعماري، والإطلالة البانورامية التي تأسر الحواس.
فالقلعة، رغم غيابها الكامل، ما زالت حاضرة بروحها. ومن يصعد تلة مكاور، حيث كان القصر يعلو المشهد، يدرك أن التاريخ ليس فقط ما مضى، بل حضور حيّ يستدعي التأمل والتأثر والإعجاب. ومن هناك، يظل البحر الميت والتلال المحيطة شاهدة حضارة تتجدد مع كل زائر.

وللباحثين عن مساحة للتأمل، أو الهروب من صخب الحياة، يمنح مكاور تجربة لا مثيل لها. ورغم أن القلعة الأصلية لم تعد قائمة بكاملها، فإن الزوار يستطيعون الصعود إلى قمة التل حيث كانت القلعة تهيمن على المشهد، ليطلقوا العنان لمخيّلتهم عبر قرون من التاريخ والروايات التي دارت أحداثها هنا. ومن هذا الموقع البانورامي، تثير الإطلالات على البحر الميت والتلال المحيطة شعورًا بالسكينة والتأمل في آن واحد



