الكسندرا غرافاس

السبت, 13, سبتمبر, 2025

أصداء الحضارة… وصوت يتجاوز الحدود

حوار حصري | مهرجان جرش 2025 | مجلة أنوفيا

في كل صيف، تستعيد جرش الأثرية مجدها القديم لتغدو مسرحاً مفتوحاً تتقاطع فيه الأزمنة. بين الأعمدة الشاهقة والطرقات المرصوفة بالأقواس والقباب، يتحول المكان إلى لوحة حيّة يكتبها مهرجان جرش للثقافة والفنون منذ انطلاقه عام 1981، محتفياً بثراء التراث الأردني، وداعياً العالم ليشهد نبضه الإبداعي.

على مدى أكثر من أربعة عقود، لم يعد المهرجان مجرد احتفال محلي، بل بات منارة ثقافية تستقطب الآلاف من مختلف القارات. من رقصات الفلكلور وأهازيج الغناء العربي، إلى الموسيقى الكلاسيكية والعروض المسرحية وقراءات الشعر، ينسج المهرجان جسوراً بين الثقافات، ويحوّل كل أداء إلى حوار عابر للقرون، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في لحظة إبداع واحدة.

اليوم، يقف مهرجان جرش شاهداً على هوية الأردن الثقافية، ورمز عالمي للاحتفاء بالفن والتعبير الإنساني الخلاق، وفي هذا المشهد، ارتفع صوت الميتزوسوبرانو العالمية ألكسندرا غرافاس ليحوّل حفلها إلى أكثر من أمسية موسيقية، إلى حوار حيّ بين الحضارات، حملت فيه الموسيقى رسالة عبور للحدود والقلوب.

غرافاس، فنانة جابت مسارح العالم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، جاءت إلى الأردن ببرنامجها HORIZONS لتجمع بين الموسيقى والذاكرة والمعنى في ليلة بقيت راسخة في الوجدان.

في هذا اللقاء مع أنوفيا، فتحت ألكسندرا قلبها للحديث عن قوة المكان، وعن الموسيقى كجسر للتبادل الثقافي، وعن صوتها الذي تحمله معها كفنانة، كأم، وكإنسانة تتجاوز قصتها حدود الأوطان.


أنوفيا: كيف عشتِ تجربة الغناء في مهرجان جرش 2025، وسط العمارة الرومانية العتيقة والتاريخ الثقافي الغني للأردن؟
ألكسندرا غرافاس:


حين وقفت في الليلة السابقة للحفل لإجراء اختبار الصوت، غمرني شعور بالرهبة أمام جمال المكان وقوته. كان المشهد مهيباً بكل تفاصيله. معبد زيوس وحده جعلني أردد بيني وبين نفسي: أين أنا؟ كان الجمال لا يُصدق.
وكوني يونانية، لا يسعني إلا أن أشعر بالفخر لمعرفة أن جرش ارتبطت بالإسكندر الأكبر. إنها بوتقة حضارات عظيمة، وما زلنا نحن اليوم، في عام 2025، قادرين على تذوق مجدها المحفوظ بعناية. تمنيت لو أن لدي يوماً كاملاً لأتجول في أرجائها بتفصيل أكبر. وبالتأكيد سأعود إلى هذا المكان الساحر.


أنوفيا: ما الذي شعرتِ به عندما اعتليتِ مسرحاً يجمع الفن بالآثار؟ وكيف كان تفاعل الجمهور الأردني معك؟
غرافاس:
الغناء في مواقع أثرية كهذه شرف عظيم. إلى جانب جرش، غنيت مرتين في المدينة  الرومانية بأثينا، حدث استثنائي لا يتكرر كثيراً حتى في حياة فنان محترف. بالنسبة لي، كانت تلك محطات فارقة في مسيرتي.
الأحجار والأعمدة تنطق بذاكرة القرون. هي ليست صامتة، بل تنبض بطاقة الماضي، وإذا أصغيت لها بصدق، تشعر بها تلامسك. هذا الإحساس يفرض على الفنان التواضع، ويترك بصمة واضحة على الأداء. أما جمهور جرش، فقد كان دافئاً، متحمساً، ومنفتحاً على الموسيقى بكل شغف.


أنوفيا: هل أضافت لك جرش بعداً جديداً في رؤيتك للتبادل الثقافي عبر الموسيقى؟ وما اللحظة التي بقيت عالقة في ذاكرتك من تلك الليلة؟
غرافاس:
تلك الأمسية أعادت تأكيد قناعتي بأنني أسير في الاتجاه الصحيح بفلسفتي الفنية.
التبادل الثقافي ضرورة للحياة، كالتنفس. الموسيقى قادرة على بناء الجسور أحياناً أكثر من الكلمات، وهذا ما يجعل المهرجانات مساحة فريدة لاكتشاف الجديد وتوسيع الأفق الموسيقي. مهما كانت خلفية الشخص، هناك دائماً ما يستحق الاكتشاف.
برنامج HORIZONS هو أحدث مشاريعي، وقد حملته معي إلى دول عدة، من ألمانيا وبيرو والمكسيك، وصولاً إلى اليونان والكويت، وأخيراً إلى جرش.


أنوفيا: مسيرتك غنية بتجارب متنوعة في القارات واللغات والأنماط الموسيقية. ما الذي شكّل صوتك، ليس فنياً فحسب، بل روحياً وإنسانياً أيضاً؟
غرافاس:
التجربة هي المعلم الأول. كل حفل، كل بلد، كل لقاء مع ثقافة مختلفة يضيف لي طبقة جديدة.
منصة الحفل تمنح الفنان فرصة للحوار مع الجمهور عبر الأغنية. هذا هو ما جذبني، ولهذا اخترت أن أكون مغنية حفلات لا مغنية أوبرا فقط. التجربة على المسرح تصقل العاطفة والروح، والغناء بالنسبة لي هو مرآة للإنسانية. آلتي الموسيقية هي جسدي وروحي، أحملها معي أينما ذهبت.


أنوفيا: كيف غيّرت الأمومة علاقتك بالموسيقى؟
غرافاس:
الأمومة منحتني قوة لم أعرفها من قبل. أن تعيشي تجربة منح الحياة هو تحول جذري. منحني ذلك الشجاعة لأعيد توجيه مساري الفني، وأطلق مشاريعي الخاصة بعيداً عن قيود التصنيف الموسيقي. لقد جعلتني الأمومة أجرؤ على أن أكون نفسي بالكامل.


أنوفيا: الشهرة غالباً ما تكون عابرة، لكنك صنعت مسيرة راسخة. ما سر الثبات؟ وما الذي يلهمك للاستمرار؟
غرافاس:
المفتاح أن تعرف من أنت، وأن تعترف بذلك لنفسك. لا شيء يحدث بالصدفة. أنا لا أؤمن بالمصادفات، بل بالعمل الدؤوب والأهداف الواضحة. أما الشهرة، فلا تعني لي شيئاً.
حين كنت مراهقة حالمة بالغناء، أصبت بشلل في الحبل الصوتي الأيسر. قضيت عاماً ونصفاً دون أن أنطق بكلمة. لم يكن أحد يعرف إن كنت سأشفى أم لا. وحين استعدت صوتي، كان علي أن أتعلم الكلام والغناء من جديد وأنا في التاسعة عشرة من عمري.
من عاش هذه التجربة لا يركض خلف الشهرة. كل ما أحلم به هو أن أغني، وأن أعيش شغفي.


أنوفيا: ما النصيحة التي تودين تقديمها كفنانة وامرأة وأم حمل صوتها عبر القلوب والحدود؟
غرافاس:
اتّبعي قلبكِ، ولا تتخلي عن أحلامك مهما بدت بعيدة. بالعمل الجاد تقتربين خطوة بخطوة. قصتي خير شاهد: من بدايتي المتعثرة، إلى أين وصلت اليوم، وما زلت أسير في الطريق نحو مزيد من الأحلام.

في جرش، لم تكتفِ ألكسندرا غرافاس بالغناء، بل أيقظت بصوتها صدى المكان العتيق نفسه. في موسيقاها يلتقي الماضي بالحاضر، وفي حضورها نتذكر أن الفن، في أسمى تجلياته، هو وعاء للذاكرة والشجاعة والاتصال الإنساني. صوتها ملأ فضاء المسرح الروماني تحت سماء الليل، لكن أصداءه ستظل عالقة طويلاً.

ومؤخراً، في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر، أطلقت غرافاس أحدث أغانيها المنفردة El Condor Pasa، لتواصل رحلتها الفنية. مبارك لألكسندرا غرافاس هذا الإنجاز الجديد.