في المشهد الثقافي الأردني، حيث يتنفس التاريخ والتراث من بين كل حجرٍ ونغمة، يسطع اسم الدكتور هيثم سكريّة بوقعٍ لا يُخطئه السمع أو الذاكرة. مؤلف موسيقي، قائد أوركسترا، وأكاديمي كرّس حياته لصناعة موسيقى لا تكتفي بإبهار الأذن، بل تصوغ هوية، وتكتب قصة وطن بلغة النغم.
إن سيمفونيات سكريّة ليست مجرد احتفالات بالصوت، بل روايات حيّة تنسج بين الماضي والحاضر، والشرق والغرب، بدقّة الحرفي وشغف الحالم.
يقول سكريّة لـ أنوفيا: “لم أولد في عائلة موسيقية، لكنها تهتم بالثقافة والفنون. ومنذ طفولتي، كانت الموسيقى تجذبني مع كل نغمة. في أيام الكشافة المدرسية عزفت على الأورغ والأكورديون، ولاحقًا في سنوات الجامعة—حين درست الهندسة المدنية بناءً على رغبة أهلي—أسست مع أصدقائي فرقة أطلقنا عليها اسم هابي دا Happy Day . لكن بعد عامين فقط، أيقنت أن طريقي في الحياة هو من خلال الموسيقى. لم تكن هواية، بل قدرًا. فسافرت إلى القاهرة لأتخصص فيها بجدية، وتتلمذت على يد المؤلف المصري الكبير عزيز الشوان، أستاذي وقدوتي، الذي كان بدوره متأثرًا بالمدرسة الروسية وبالأخص سترافينسكي، وهو التأثير الذي انعكس عليّ أيضًا.
اليوم، يقف سكريّة على رأس أوركسترا الجامعة الأردنية، يقود الأجيال الجديدة من الموسيقيين، وفي الوقت ذاته يؤلف أعمالًا تضع الصوت الأردني في قلب التقليد السيمفوني العالمي. ترتكز مؤلفاته على فلسفة قومية ثقافية ترى في الموسيقى وعاءً للهوية.

“شغفي هو دمج التقاليد الشرقية بالغربية، إعادة تشكيل الأوركسترا الكلاسيكية الغربية لتجسيد روح عربية وهوية أردنية خالصة. كل نغمة تحمل خيوطًا من التراث المحلي. مؤلفاتي مثل شروق في وادي رم، غروب في وادي رم، وسيمفونية البترا كلها تعكس هذه الرؤية”
بالنسبة له، الإبداع ليس انتظارًا لإلهامٍ عابر. “المؤلف الحقيقي يجب أن يكون مسلحًا بأدوات فنه. لا يمكننا الاعتماد على شرارة وحي عابرة. الإبداع يولد من الانضباط، والمعرفة، والوعي الثقافي، والحدس الفني المصقول. إن ثراء العلم والتراث والثقافة هو ما يمنح السيمفونية حياتها”
يصرّ سكريّة على أن الموسيقى لغة عالمية، لها أبجديتها الخاصة، يفهمها الناس مهما اختلفت خلفياتهم. ومع ذلك، فإن تأليف السيمفونية يحتاج إلى صبر طويل؛ فقد يستغرق الأمر شهورًا أو حتى سنوات.
“على سبيل المثال، سيمفونية المملكة الأردنية الهاشمية، وهو عمل ضخم يتألف من خمس حركات تروي المسيرة منذ الثورة العربية الكبرى وحتى الحاضر، استغرق عامًا كاملًا من التحضير والتوزيع.“
ورغم اعتراف العالم بإنجازاته، يبقى سكريّة وفيًا لصدقه الفني. أعماله لا تُكتب للنقاد بل للناس، لطلابه وأسرته ومجتمعه. “كان جمهوري الأول دائمًا عائلتي وطلابي. رأيهم هو الأهم قبل أن أقدّم أي عمل للعالم”.
ومن بين أبرز أعماله، «عروس الشمال»، وهي قطعة سيمفونية مهداة إلى مسقط رأسه إربد. صاغها بقالب شرقي أصيل، وأدخل فيها العود والناي والقانون والرق، لتلتقط جمال شمال الأردن وروحه. عُزفت في بيروت عام 2014 ووجدت صدى واسعًا في العالم العربي وخارجه.
لقد حظي سكريّة بتقدير رفيع على إسهاماته في الإرث الثقافي الأردني، ونال عدة أوسمة مرموقة، من أبرزها وسام الاستقلال من الدرجة الأولى الذي منحه إياه جلالة الملك عبدالله الثاني، تقديرًا لدوره البارز في ترسيخ الهوية الموسيقية الوطنية.
لكن رحلته لم تتوقف هنا. “تشرفت بالعزف في حفلات عالمية عبر أوروبا والعالم العربي والصين. أما مشروعي القادم فهو موسيقى سالومي، عمل ضخم يروي القصة الدرامية لقطع رأس يوحنا المعمدان”
هيثم سكريّة ليس مجرد مؤلف موسيقي، بل هو حارس للتراث ورؤيويّ للمستقبل. فمن خلال موسيقاه، يجد الصوت الأردني تناغمات جديدة تعبر الحدود، وتُلهم الأجيال، وتضمن أن تُروى حكاية هذا الوطن دائمًا بلغة عالمية واحدة: لغة الموسيقى.