كنوز مدينة جرش… سوق الماكيليوم

السبت, 13, سبتمبر, 2025


عمر الحمصي

كاتب

على أرصفة التاريخ وشوارع الزمن، تقع جرش الأثرية في شمال الأردن، جوهرة الشرق التي احتفظت بسحرها الروماني العتيق. هنا، تتعانق الأعمدة الضخمة مع المسارح والميادين، وتروي الحمامات والمعابد والأقواس حكايات حضارات تتابعت على أرض واحدة منذ أكثر من ستة آلاف عام. من العصر البرونزي مرورًا بالعهد الروماني والإسلامي وصولًا إلى العثماني، تظل جرش متحفًا حيًا يعكس عبقرية الإنسان في التفاعل مع بيئته، ويأخذ الزائر في رحلة تتخطى حدود الزمان والمكان، لتصبح تجربة السياحة التاريخية فيها لحظة استثنائية من الجمال والمعرفة.

على بُعد خطوات قليلة شمال الساحة الرئيسية، يقف سوق الماكيليوم شامخًا منذ القرن الثاني الميلادي، معلنًا عن عراقة التجار وحيوية الحياة الاقتصادية في المدينة الرومانية. أربعة أعمدة كورنثية ضخمة ترحب بالزائر عند المدخل الرئيسي، أكبر حجمًا من بقية أعمدة المدينة، لتؤكد أهمية السوق كمعلم اقتصادي محوري في جرش القديمة.

تتزين واجهة السوق الرئيسية ببركة ماء يعلوها رأس أسد ونقوش تخليدًا للإمبراطورة الرومانية العربية جوليا دومنا، زوجة القائد العسكري سيبتيموس سيفيروس في حمص، لتروي للزائر قصة السلطة والاقتصاد في آن واحد. وفي قلب السوق، الذي كشفت الحفريات الأردنية–الإسبانية المشتركة عن معالمه عام 1983، توجد نافورة ثمانية الأضلاع كانت تُزيّنها سابقًا أربعة تماثيل لأسود.

تتزين أعمدة السوق بالحجر الجيري الشبيه بالرخام، وعلى أحدها رأس امرأة بضفائر مجدولة يُعتقد أنها تمثل الإمبراطورة جوليا دومنا. أما سقف السوق، الذي كان مغطى بالخشب والقرميد، فقد انهار بفعل الزلازل، لكن بصماته لا تزال شاهدة على فخامته.

قابلت مدير مركز دراسات العهد القديم، الدكتور يوسف زريقات، الذي أعلن لي أن جرش ازدهرت بشكل واضح خلال العصر الروماني، “فهي تقع على ملتقى طرق القوافل التجارية وقريبة من موانئ الساحل الفلسطيني، حيث عمل أهلها في تجارة أشهر منتجات العالم القديم، من البخور والحرير والذهب والفضة والتوابل وغيرها”. ويضيف: “سوق الماكيليوم يثبت ازدهار المدينة واعتبارها محطة رئيسية للقوافل، فقد استخدم السوق لبيع الطعام والخضار واللحوم، وما زالت آثار قطعانات اللحم على بعض طاولات البيع شاهدة على تلك الأيام”.

ولم تقتصر أهمية جرش على العصور الرومانية فقط، فهي تحتضن قرية تل أبو الصوان الزراعية، إحدى أقدم القرى في التاريخ البشري، التي نشأت في العصر الحجري ما قبل الفخاري وتمتد إلى حوالي 12000–8000 سنة قبل الميلاد. واستمر الاستيطان البشري في جرش خلال العصر البرونزي (3300–1200 ق.م)، لتصبح نقطة التقاء الحضارات وملتقى القوافل التجارية من الشرق عبر العراق والخليج العربي، إلى فلسطين ولبنان ونهر النيل وشمال الجزيرة العربية.

أضاف زريقات بحماس مشهود: “وصلت جرش إلى عصرها الذهبي منذ بدايات القرن الثاني الميلادي، متبوئة مكانة جوهرة المدن العشر الديكابوليسية بفضل موقعها الاستراتيجي في العصر الروماني. فقد تميزت بوجود مجموعات ضخمة من الحمامات الرومانية النموذجية، التي كانت تؤدي دور النادي الاجتماعي والسياسي والتجاري والترفيهي، ومعها عمدة المدينة الذي عُثر على تمثال له ضمن عشرات التماثيل في الحمامات الشرقية، شاهدة على غنى الحياة العامة في جرش القديمة”.