
في قلب شمال الأردن تقف جرش، مدينة تنبض بتاريخ محفور في الحجر. من “أنطاكية على نهر الذهب” قديمًا، إلى أبهى مدينة رومانية باقية في الشرق الأدنى، وندٌّ جدير ببومبي.
أنوفيا- في قلب شمال الأردن، تتربع مدينة جرش كصفحات مفتوحة من التاريخ مصوغة من الحجر. وتُعدّ اليوم أفضل المدن الرومانية الإقليمية حفظًا في الشرق الأدنى، لا يضاهيها في ذلك سوى مدينة بومبي في إيطاليا. عُرفت في العصور القديمة باسم جراسا، ويُرجّح أن تأسيسها يعود إلى الحقبة الهلنستية حين أُنشئت كمستعمرة سلوقية، عُرفت أحيانًا باسم “أنطاكية على نهر خريصورواس”. إلا أن صعودها الحقيقي بدأ مع ضمّ بومبي للمنطقة عام 63 قبل الميلاد، لتصبح جراسا جرش جزءًا من النفوذ الروماني.

باعتبارها إحدى مدن الديكابوليس، ازدهرت جرش بفضل التجارة الإقليمية وخصوبة أراضيها، وتمتعت بدرجة من الاستقلال المدني. وسرعان ما تحولت إلى نموذج في التخطيط العمراني الروماني. فقد زخرت بشارع معمد” كاردو” يتقاطع مع الشوارع العرضية ، ديكوماني، وساحة بيضاوية فريدة خُصصت للطقوس والحركة والاحتفالات. كما شُيّدت معابد مهيبة للإلهين زيوس وأرتميس، إلى جانب مسرحين، ونمفيوم مزخرف، وحمامات عامة، ومدرّج لسباق الخيل (الهيبودروم). أما قوس هادريان، الذي بُني تخليدًا لزيارة الإمبراطور عام 129/130م، فما زال حتى اليوم يستقبل الزائرين كأحد أبرز شواهد العظمة الرومانية.
جرش لم تكن مجرد مدينة للعمارة، بل مركزًا للفكر والمعرفة. فقد وُلد فيها نيكوماخوس الجرشي، عالم الرياضيات والمنظّر الموسيقي في القرن الثاني الميلادي، والذي أسهم في ترسيخ مكانة المدينة الثقافية داخل الإمبراطورية. ومع إعادة التنظيم الإداري عام 106م، أُلحقت جراسا بمقاطعة “العربية الرومانية”، مما عمّق ارتباطها بالبنية الإمبراطورية، فيما واصل الأهالي تمويل الأعمدة الرخامية والواجهات المزخرفة التي أضفت على المدينة مظهرًا فخمًا.

ومع بزوغ المسيحية، دخلت جرش مرحلة جديدة. فمن القرن الرابع وحتى السابع الميلادي، أصبحت مركزًا مسيحيًا مزدهرًا. وكشفت الحفريات عن ما لا يقل عن اثنتي عشرة كنيسة، منها المجمع الكاتدرائي، وكنائس ثلاث بُنيت متجاورة في تخطيط فريد. أما كنيسة الرسل والشهداء (465م) فتجسّد الطابع البيزنطي الجديد في العمارة. وتدل النقوش والفسيفساء على تنوّع مجتمعي ضمّ المسيحيين واليهود والجنود، مما أضفى على المدينة طابعًا غنيًا ومعقّدًا.
غير أن الزلزال العنيف الذي ضرب المنطقة في منتصف القرن الثامن الميلادي، والذي يُؤرخ غالبًا بعام 749م، شكّل نقطة تحوّل مأساوية. فقد دمّر معظم عمرانها. ورغم أن بعض الاستيطانات المحدودة عادت إليها، ومنها حصن صليبي صغير، إلا أن مجدها القديم لم يُستعد.

بدأت التنقيبات العلمية المنتظمة في أوائل القرن العشرين عبر بعثة جامعة ييل والمدرسة البريطانية، وما تزال الأبحاث جارية حتى اليوم. وقد أظهرت الحفريات الحديثة في “الحي الشمالي الغربي” جوانب جديدة من الحياة اليومية في المنازل والورش والأسواق، مما أضفى بعدًا أعمق على فهمنا للمدينة يتجاوز آثارها الضخمة.
تظل جرش شاهدًا على تلاقي الطموح الهلنستي مع العظمة الرومانية والروحانية البيزنطية، وعلى مرونة المجتمعات التي تكيفت مع تقلبات التاريخ. كل عمود وكل فسيفساء، وكل قوس متهدم، يروي قصة مجد وصمود وإحياء جديد، ما يجعل من جرش واحدة من أعظم المدن الأثرية في العالم.
